نتنياهو وغزة- حسابات المقامرة، استمرار الحرب، ومآلات المشروع الصهيوني.

المؤلف: د. محسن محمد صالح10.11.2025
نتنياهو وغزة- حسابات المقامرة، استمرار الحرب، ومآلات المشروع الصهيوني.

إن الطريقة التي يقود بها نتنياهو وحكومته الصراع الدائر في قطاع غزة تشير بجلاء إلى أن أمد الحرب سيطول، وأن لا نهاية قريبة تلوح في الأفق.

العقلية المهيمنة على النظام الحاكم في إسرائيل:

تظهر جليًا مجموعة من الدلالات المرتبطة بصلب العقلية التي تسيطر على النظام الإسرائيلي الحاكم وطبيعة تفكيره:

أولًا: الرغبة العارمة لدى نتنياهو في التشبث بمنصبه كرئيس للوزراء، وإطالة أمد حكومته لأبعد مدى ممكن، طمعًا في تحقيق نصر ما أو إنجاز يلمّع صورته أمام الرأي العام، في ظل الإخفاق الذريع في بلوغ الأهداف التي أعلنها، والمتمثلة في القضاء على المقاومة، و"تحرير" الأسرى المحتجزين لدى حماس، وفرض رؤيته لما بعد الحرب على قطاع غزة؛ والبحث عن مهرب إلى الأمام، لإدراكه أن أي اتفاق يتم وفقًا لشروط المقاومة، سيؤذن عمليًا بنهاية مسيرته السياسية، وربما زجه في غياهب السجون.

ثانيًا: العقلية المتأصلة في حزب الليكود والصهيونية الدينية، والقائمة على النظرة المتعالية تجاه الآخرين، وعدم التعامل معهم كبشر، والإيمان بأنه ما لا يتحقق بالقوة الغاشمة، يمكن تحقيقه بمزيد من البطش والقمع.

ثالثًا: وجود دعوات ومطالبات داخل أروقة النظام الحاكم لتهجير أكبر عدد ممكن من سكان القطاع، وإحياء مشاريع الاستيطان البائدة، لا سيما في الجزء الشمالي من القطاع.

رابعًا: حالة الإنكار المستفحلة التي يعيشها نتنياهو، المتسم بشخصيته المتعجرفة والمتغطرسة، وشعوره المفرط بأنه "ملك إسرائيل" غير المتوج، وأنه من عظام التاريخ اليهودي، لم يستوعب الصدمة المدوية بتمريرغ أنفه وقواته في التراب، وأن "كيانًا مهمشًا" مثل قطاع غزة يستميت في الصمود طيلة أحد عشر شهرًا، في وجه "القوة العظمى" في منطقة الشرق الأوسط، وأمام حلف عالمي متراص الصفوف.

ولذلك، سيواصل نتنياهو هوايته في العدوان بمنطق "المقامر" المتهور حتى لو استنفدت قواه، لعله يجد فرصة سانحة للخروج من ورطته.

خامسًا: حالة الإغواء التي يعيشها نتنياهو وحكومته المتطرفة، وسط بيئة مشجعة تتمثل بقيادة رسمية فلسطينية واهنة، وسلطة في رام الله متواطئة مع الاحتلال، وتعرقل المقاومة في الضفة الغربية، مترقبة سقوط حماس لتوريثها في القطاع.

وثمة بيئة عربية وإسلامية هشة وعاجزة، بل إن الكثير منها يتمنى انتصار الاحتلال وسحق حماس، والعديد منها يواصل مسيرة التطبيع، ويزود الاحتلال بالكثير من احتياجاته، وغيرهم متورطون في الحصار الخانق وفي قطع شرايين الحياة عن المقاومة، وفي تشويه صورة المقاومة ومواقفها سياسيًا وإعلاميًا.

وثمة بيئة دولية، بالرغم من كل التعاطف الظاهري، وبالرغم من العزلة المتزايدة التي يعانيها الاحتلال، فإنها ما زالت غير قادرة على لجم المجازر الوحشية، والتدمير الممنهج.

ولأن نتنياهو وحزبه المتطرف يدركون ذلك تمامًا، فإنهم ما زالوا يرون أن هناك فرصة يجب استغلالها، وأن هناك "وهمًا" يجب اللحاق به لمواصلة محاولة سحق المقاومة، وإخضاع قطاع غزة.

مؤشرات مرتبطة بطريقة إدارة الحرب:

ثمة مؤشرات وثيقة الصلة بطريقة إدارة الحرب على القطاع تنبئ بإطالة أمدها:

أولًا: الإفشال المتعمد للمفاوضات الرامية إلى التوصل إلى اتفاق مع حماس والمقاومة، ووضع شروط جديدة تعجيزية، كان أبرزها اختلاق معضلة محور صلاح الدين (فيلادلفيا) ورفض الانسحاب منه.

وهذا الشرط كفيل بنسف أي مفاوضات مستقبلية؛ لأنه مرفوض جملة وتفصيلاً من المقاومة ومن سلطة رام الله ومن مصر، وسائر الأنظمة العربية، ويستنكرها العالم بأسره حتى من أقرب حلفاء الاحتلال الإسرائيلي وأصدقائه. أي أنه شرطٌ وضعه نتنياهو عن قصد ليكون مصيره الرفض!! وهو ما سيمنحه الذريعة للاستمرار في الحرب.

ثانيًا: السعي لعقد صفقة بشأن إطلاق سراح الأسرى، مع الإصرار في الوقت نفسه على مواصلة الحرب وعدم الانسحاب الكامل من قطاع غزة. وهو ما يعني فصل المسارين، للتخفيف من الأعباء والضغوط المرتبطة بتحرير الأسرى، وبما يمكنه من تعزيز فاعليته لاحقًا في ملاحقة المقاومة، وتصفيتها ولو استغرق ذلك وقتًا طويلًا.

ثالثًا: إعلان الاحتلال بتاريخ 28 أغسطس/ آب عن تعيين العميد إلعاد جورين قائدًا عسكريًا لقطاع غزة بمنصب "رئيس الجهود المدنية – الإنسانية"، وهو منصبٌ يوازي منصب رئيس الإدارة المدنية في الضفة الغربية. ويهدف لتولي مسؤولية الحياة المدنية للناس كجوانب المساعدات الإنسانية والإغاثة، وإدارة المعابر، والأنشطة المدنية طويلة المدى كعودة النازحين وترميم المنشآت المدنية والإعمار.

وهذا التعيين يحاول إعطاء انطباع بأن الاحتلال قد يطيل البقاء لسنوات؛ سعيًا للوصول إلى بناء سلطة محلية بديلة لحماس.

بين الشروط الإسرائيلية وشروط المقاومة:

بينما يطمح الاحتلال الإسرائيلي إلى سحق المقاومة و"تحرير" المحتجزين وفق مقاييسه الخاصة، ويرغب في إدامة الحرب والبقاء في القطاع حتى يحقق أهدافه ويفرض تصوره الخاص عن اليوم التالي في إدارة القطاع وصولًا إلى إدارة محلية عميلة تنزع أسلحة المقاومة، وتضمن أمن غلاف غزة؛ فإن المقاومة ترفض القبول بأي اتفاق لا يضمن الوقف التامّ لإطلاق النار، والانسحاب الكامل من القطاع، وصفقة تبادل أسرى مُشرّفة.

وهذا يعني أن السقف الأعلى الذي يقدمه الإسرائيلي لا يرقى إلى الحد الأدنى الذي تقبل به المقاومة؛ وهو ما ينذر باستمرار الحرب، لا سيما أن المقاومة لا تملك خيارًا آخر سوى مواصلة أدائها القوي، واستنزاف الاحتلال، حتى يُجبر نتنياهو على الاستسلام لشروطِها.

قراءة واقعية للموقف:

تشي المعطيات السابقة بنزعة نتنياهو نحو إطالة أمد الحرب، وإطالة فترة ولايته على رأس الحكومة. غير أنها في الواقع لا تعكس القدرة الفعلية على ترجمة رغباته على أرض الواقع. كما يظهر التدقيق في عدد من المعطيات أنها على الرغم من عرضها في إطار استراتيجي، إلا أنها عمليًا مجرد أدوات ضغط تكتيكية مؤقتة.

ثمة خمس نقاط جديرة بالتأمل عند استقراء المشهد:

أولًا: يهدف الاحتلال الإسرائيلي من خلال التصلب في موضوع محور صلاح الدين (فيلادلفيا) وتعيين حاكم عسكري للقطاع، والتلميح إلى طول الإقامة، إلى محاولة تفكيك الحاضنة الشعبية الغزّاويّة وتيئِيسها، وإيجاد بيئة تقوض الدعم الشعبي للمقاومة، وتسهل الانصياع للشروط والمعايير الإسرائيلية، وذلك للضغط على المقاومة لانتزاع أفضل نتيجة ممكنة، عند إبرام أي اتفاق معها.

فمجريات المفاوضات التي انعقدت في الأشهر الماضية، برعاية أميركية- قطرية- مصرية، تشير إلى موافقة الجانب الإسرائيلي على الانسحاب من محور نتساريم، ومن شمال قطاع غزة، ومن معظم مواقع تواجد الاحتلال الإسرائيلي. وبالتالي لا يوجد مبرر حقيقي لمناقشة مواضيع التهجير والاستيطان، ومنع النازحين من العودة، طالما استمرّ أداء المقاومة، والصمود الشعبي.

ثانيًا: إن معضلة إصرار الاحتلال على البقاء في محور صلاح الدين (فيلادلفيا) التي يتبناها نتنياهو، هي في صميمها وسيلة ضغط تكتيكي، وليست موقفًا استراتيجيًا ثابتًا، فنتنياهو نفسه لم يستذكر أهمية المحور إلا في الشهر الثامن للحرب، وسبق للطرف المصري أن أحكم إغلاق الأنفاق بفاعليّة تامة، ولا تزال هناك العديد من السبل والأدوات البديلة العربية والدولية المحتملة، والتي قد يتقبلها الاحتلال.

كما أن الاحتلال لا يجد طرفًا فلسطينيًا ولا مصريًا ولا عربيًا على استعداد للتجاوب معه في إدارة معبر رفح والبقاء في المحور؛ بل إن أغلب حلفائه في المحيط الدولي يرفضون بقاءه، والاقتراحات الأميركية المطروحة لإنهاء الصراع مع المقاومة تنص على انسحاب الاحتلال من المحور. يضاف إلى ذلك أن قيادة الجيش وعلى رأسها غالانت والمؤسسة الأمنية لا يجدون ضرورة للبقاء في المعبر، فضلًا عن قادة عسكريين كبار أمثال رئيسي أركان الجيش السابقين إيهود باراك، وآيزنكوت.

ثالثًا: إن استمرار الأداء المذهل للمقاومة، واستمرار الاستنزاف الهائل الذي يتكبده الجيش الإسرائيلي في القطاع، مع تضافر التقديرات الإسرائيلية والعالمية بقدرة المقاومة على الثبات والصمود، وصعوبة إن لم يكن استحالة القضاء عليها في المستقبل المنظور، وتنامي المخاوف بشأن عدم قدرة الجيش على البقاء لفترات طويلة في المحاور التي يصبو نتنياهو إلى السيطرة عليها مثل نتساريم وصلاح الدين (فيلادلفيا)، مع توقع ازدياد الثغرات داخل جيش الاحتلال مع مرور الوقت، يزيد كل هذا من حظوظ المقاومة في مضاعفة أدائها وفرض شروطها.

وقد وصفت صحيفة معاريف الإسرائيلية (29/8/2024) شهر أغسطس / آب 2024 بأنه الأكثر دموية للجيش الإسرائيلي خلال الحرب، مما يعكس مدى فاعلية المقاومة. ومن جهة أخرى، نقلت الإذاعة الإسرائيلية عن مسؤولين عسكريين إسرائيليين أنّ عمليات الجيش انتهت في القطاع بشكل عام، وأنه تم إبلاغ القيادة السياسية أن الفرصة قد حانت لعقد صفقة مع المقاومة.

وهذا ما عبر عنه غالانت وزير الجيش، عندما صوَّت في الكابينت ضدّ البقاء في محور فيلادلفيا؛ وعندما طالب لاحقًا بإعادة التصويت لصالح الخروج منه. أما الجنرال المتقاعد إسحاق بريك، فقد ذكر في مقال نشرته هآرتس في 21/8/2024 أن "إسرائيل" ستنهار في غضون عام واحد، إذا استمرت حرب الاستنزاف ضد حماس وحزب الله، وأن جميع مسارات المستوى السياسي والعسكري تقود "إسرائيل" إلى الهاوية.

رابعًا: إنه بعد اضطرار كتائب القسام لقتل ستة أسرى إسرائيليين، قبل أن يتمكن جيش الاحتلال من الوصول إليهم في 30 أغسطس/ آب الماضي، انتهى عمليًا "شهر العسل" المؤقت الذي تمتع به نتنياهو بعد عودته من الولايات المتحدة، معتمدًا على دعم أميركي قوي، وبعد نجاحه في اغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنية، ورئيس أركان حزب الله فؤاد شُكر.

فقد تبدلت الأجواء الداخلية رأسًا على عقب ضد نتنياهو، وساد شعور بأن طريقة نتنياهو في العمل لن تعيد الأسرى إلا في توابيت، واندلعت مظاهرات عارمة بلغ عدد المشاركين فيها نحو 750 ألفًا، تطالب بإبرام صفقة مع المقاومة، وتصاعدت وتيرة المعارضة الشعبية والسياسية لنتنياهو. وأظهرت استطلاعات الرأي عودة غانتس للتفوق على نتنياهو، وعدم رضا 61% عن أداء نتنياهو، وموافقة 53% على الانسحاب من معبر رفح، ورغبة أغلبية ساحقة بعدم ترشح نتنياهو في الانتخابات القادمة.

خامسًا: ثمة إشكالية كبيرة تواجه الاحتلال في حالة إصراره على البقاء في القطاع وإدارته عسكريًا، وهي تحمّل المسؤولية المباشرة (عمليًا ووفق القانون الدولي) عن حياة الناس وإغاثتهم وإعادة بناء البنى التحتية والخدمات والمدارس والمستشفيات، ووجوده في بيئة مقاومة وحاضنة شعبية معادية، مع عدم قدرته على الاستمرار في ارتكاب المجازر إلى ما لا نهاية.

وثمة غالبية إسرائيلية ترى أن آخر ما يبتغيه الصهاينة، هو الإدارة المباشرة للقطاع، وتلبية الاحتياجات المدنية والمعيشية للناس.

خلاصة:

يسعى نتنياهو جاهدًا من خلال إطالة أمد الحرب، والتمسك بالإصرار على البقاء في قطاع غزة، إلى إطالة فترة بقائه في السلطة لأطول فترة ممكنة، وإلى محاولة تحقيق نصر وهمي على المقاومة، وإخضاع الحاضنة الشعبية. غير أن عناصر الضغط المتزايدة على نتنياهو وحكومته كفيلة بإفشال هذه الحسابات، لا سيما مع استمرار المقاومة في أدائها الباسل، والتفاف القاعدة الشعبية حولها.

لقد عجز الاحتلال على مدى أكثر من ثلاثة عقود عن سحق المقاومة في الضفة الغربية، وإخضاع البيئة الشعبية، رغم تعاونه الوثيق مع سلطة رام الله، وما زالت حماس قوية وذات شعبية جارفة في الضفة. وبالتالي فمن باب أولى أن تكون فرضياته وتجربته في القطاع محكومة بالفشل.

تشير الدلائل إلى أن الحرب على غزة ستستمر؛ غير أن نتنياهو قد لا يدرك، أن وهم القوة يعمي بصيرته عن الاستنزاف والخسائر الفادحة التي يتكبدها هو وحكومته عسكريًا وأمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا…، وأن هذا قد يكون من "مكر" الله – سبحانه – للاحتلال، وبالتالي بدء العد التنازلي للمشروع الصهيوني واحتلاله.

وفي المقابل، فإن هذا لا يعفي كل قادر على نصرة غزة من واجباته الجسام، كلٌّ حسب استطاعته، أفرادًا وشعوبًا ودولًا وحركات ومنظمات. وعلى الجميع إدراك المرحلة التاريخية الفارقة التي تمر بها قضية فلسطين، ومنع الاحتلال الصهيوني المنفرد بغزة، ووقف نزيف الدماء والخراب، ومضاعفة الجهود في درب التحرير وإنهاء الاحتلال.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة